تُعد الكوليرا في السودان إحدى الأزمات الصحية الأكثر إلحاحاً التي تواجهها البلاد، حيث تفاقمت هذه الأزمة بشكل كبير نتيجة للصراع المستمر منذ أبريل 2023. هذا الصراع لم يؤدِ فقط إلى نزوح الملايين وتدهور الأوضاع الإنسانية، بل شل أيضاً البنية التحتية الأساسية، لا سيما فيما يتعلق بالمياه والصرف الصحي والرعاية الصحية، مما خلق بيئة مثالية لانتشار الأمراض المنقولة بالمياه مثل الكوليرا.
تشير التقديرات إلى أن الوضع الوبائي للكوليرا في السودان خطير للغاية ومتصاعد. فمنذ مطلع عام 2025، تم تسجيل أكثر من 60 ألف حالة إصابة بالكوليرا في جميع أنحاء البلاد، مع وفاة أكثر من 1640 شخصاً. تُعد ولاية الخرطوم البؤرة الرئيسية لتفشي المرض، حيث سجلت لوحدها أكثر من 7700 حالة إصابة منذ يناير 2025، منها أكثر من 1000 حالة بين الأطفال دون سن الخامسة، و185 حالة وفاة. وفي أسبوع واحد فقط، أعلنت وزارة الصحة السودانية عن تسجيل 2729 إصابة و172 وفاة، 90% منها في الخرطوم.
لم يقتصر تفشي الكوليرا على الخرطوم فحسب، بل امتد ليشمل عدة ولايات أخرى متأثرة بشكل كبير، منها النيل الأبيض، كسلا، القضارف، جنوب دارفور، سنار، وولاية الجزيرة. ففي ولاية سنار، تم تسجيل 153 حالة اشتباه و9 وفيات في يونيو 2025. هذه الأرقام تعكس مدى اتساع نطاق الأزمة وتأثيرها على مختلف مناطق السودان، خاصة تلك التي تستضيف أعداداً كبيرة من النازحين داخلياً.
مرضى يتلقون العلاج في أحد المستشفيات في الخرطوم وسط نقص الإمدادات الطبية.
تُعد الحرب المستمرة في السودان منذ أبريل 2023 العامل الأكثر تأثيراً في تفاقم أزمة الكوليرا. لقد أدت النزاعات المسلحة إلى دمار هائل في البنية التحتية الحيوية، وشلّت قدرة النظام الصحي على الاستجابة، وأثرت بشكل مباشر على توفر المياه الصالحة للشرب وخدمات الصرف الصحي.
تسببت هجمات الطائرات المسيّرة وانقطاع الكهرباء في تعطيل محطات تنقية المياه، مما دفع السكان إلى الاعتماد على مصادر مياه غير آمنة مثل نهر النيل أو الآبار المفتوحة التي لا تخضع للمعالجة أو الرقابة. هذا النقص الحاد في المياه النظيفة وارتفاع أسعار برميل المياه (الذي يصل إلى ثلاثين ألف جنيه سوداني) يجبر العائلات على استخدام مصادر مياه ملوثة، مما يزيد بشكل كبير من خطر الإصابة بالكوليرا وانتشارها.
يُظهر هذا الرسم البياني مدى تدهور الخدمات الأساسية في السودان نتيجة الصراع المستمر، مما يساهم بشكل مباشر في تفشي الكوليرا. فتوفر المياه النظيفة وخدمات الصرف الصحي يكاد يكون معدوماً، بينما تعاني المرافق الصحية من نقص حاد في الجاهزية والوصول إلى الأدوية. تُشكل هذه العوامل بيئة مواتية لانتشار الأمراض وتفاقم الأزمة الصحية.
أدى النزوح الجماعي للسكان بسبب الصراع إلى اكتظاظ المخيمات ومناطق تجمع النازحين. هذه الظروف المعيشية المكتظة، بالإضافة إلى ضعف شبكات الصرف الصحي وانتشار الأوساخ في المناطق السكنية، تُعد عوامل مساعدة لانتشار الكوليرا بسرعة. الأطفال هم الأكثر عرضة للخطر، حيث أن أكثر من مليون طفل في ولاية الخرطوم معرضون للإصابة بالكوليرا، ويُعاني العديد منهم أيضاً من سوء التغذية الحاد، مما يجعلهم أكثر عرضة للمضاعفات الخطيرة.
يُعرف مرض الكوليرا بأنه عدوى بكتيرية حادة تُسببها بكتيريا _Vibrio cholerae_، وتنتقل بشكل رئيسي عبر تناول المياه أو الطعام الملوث. الأعراض التقليدية تشمل الإسهال المائي الشديد، القيء، والجفاف السريع، والضعف العام. وفي بعض الحالات، تظهر أعراض غير تقليدية مثل الصداع والمغص الحاد دون وجود إسهال، مما قد يؤخر التشخيص والعلاج ويزيد من خطورة الحالة.
إذا لم يُعالج الجفاف الناتج عن الكوليرا في غضون ساعات، يمكن أن يؤدي إلى مضاعفات خطيرة مثل الفشل الكلوي وحتى الوفاة. الأطفال الصغار والأشخاص ذوو المناعة الضعيفة معرضون بشكل خاص لهذه المضاعفات، خاصة في المناطق التي تعاني من نقص الغذاء والمياه النظيفة.
يعتمد علاج الكوليرا على مبادئ بسيطة ولكنها فعالة، تركز بشكل أساسي على تعويض السوائل والأملاح المفقودة لمنع الجفاف، الذي يمثل الخطر الأكبر. بالإضافة إلى ذلك، تُبذل جهود كبيرة في حملات التطعيم والتعليم الصحي للحد من انتشار المرض.
يُعطى المرضى محاليل عن طريق الفم، مثل محلول معالجة الجفاف الفموي (ORS)، حيث يُنصح بإذابة كيس واحد في لتر من الماء النظيف للبالغين. في الحالات الشديدة، يُستخدم الإعطاء الوريدي للسوائل. كما يمكن استخدام المضادات الحيوية مثل الدوكسوسيكلين أو الأزيثروميسين لتقليل مدة الإصابة ومنع انتشار العدوى.
يُظهر هذا الرسم البياني بالرادار تقييمًا لفعالية جهود الاستجابة للكوليرا في السودان. تُشير المستويات المنخفضة لتوفر المياه النظيفة والصرف الصحي إلى تحديات كبرى، بينما تُظهر إمكانية الوصول للمرافق الصحية والدعم اللوجستي للإغاثة مستويات متوسطة. التوعية بالمرض، على الرغم من أهميتها، لا تزال بحاجة إلى تعزيز شامل.
تم إنشاء مراكز علاجية متخصصة، مثل تلك المدعومة من قبل منظمة أطباء بلا حدود (MSF)، حيث تم علاج أكثر من 2700 مريض في مستشفى كوستي التعليمي بولاية النيل الأبيض. كما بدأت وزارة الصحة السودانية، بالتعاون مع اليونيسف ومنظمة الصحة العالمية، حملات تطعيم واسعة النطاق. ففي سبتمبر 2024، سلمت اليونيسف 404 آلاف جرعة من لقاح الكوليرا إلى السودان، وبدأت الجولة الثانية من حملة التطعيم الفموي في كسلا لمنع المزيد من الانتشار. كما تُنفذ حملات توعية صحية لتعليم السكان أفضل الممارسات للوقاية.
مريض كوليرا يتلقى العلاج في الشارع بسبب انهيار النظام الصحي.
رغم الجهود المبذولة، لا تزال التحديات أمام السيطرة على وباء الكوليرا في السودان جسيمة. إن استمرار الحرب يعيق بشكل كبير وصول المساعدات الإنسانية والطبية، ويمنع إعادة بناء البنية التحتية المتضررة.
حذرت نقابة أطباء السودان من أن القضاء على الكوليرا يكاد يكون مستحيلاً في ظل استمرار الحرب، حيث تُستهدف المرافق الصحية وتنهار المنظومة الطبية. هذا الوضع يؤدي إلى تلقي بعض المرضى العلاج في ظروف غير مناسبة، حتى في الشوارع، مما يزيد من خطورة الأزمة.
يُشير الوضع الحالي إلى أن السودان على حافة "كارثة صحية شاملة". يتطلب التصدي لهذه الأزمة جهوداً دولية مكثفة، بما في ذلك توفير المزيد من الموارد للوقاية والعلاج، ودعم المنظمات الإنسانية، والضغط من أجل وقف إطلاق النار لتمكين وصول المساعدات الضرورية وتحسين الظروف المعيشية للسكان المتضررين.
وزارة الصحة السودانية تطلق حملة قومية للتطعيم ضد الكوليرا في الخرطوم. يُظهر هذا الفيديو الجهود المبذولة للسيطرة على الوباء من خلال حملات التطعيم الواسعة النطاق، والتي تستهدف الوصول إلى أكبر عدد ممكن من السكان لتقليل انتشار المرض.
تُعد أزمة الكوليرا في السودان مثالاً صارخاً على كيفية تداخل النزاعات المسلحة مع الكوارث الصحية، مما يخلق وضعاً إنسانياً معقداً يتجاوز القدرة على الاستجابة التقليدية. يوضح الرسم التخطيطي الذهني التالي الشبكة المعقدة من الأسباب والآثار والجهود المبذولة لمواجهة هذا الوباء.
يُجسد هذا المخطط الذهني الترابط المعقد بين العوامل التي تُغذي أزمة الكوليرا في السودان. من الأسباب الجذرية المتعلقة بالصراع وتدهور البنية التحتية، مروراً بالوضع الوبائي المتفاقم وتأثيراته الصحية المدمرة، وصولاً إلى جهود الاستجابة والتحديات المستمرة. ويُبرز المخطط الحاجة الماسة إلى تدخلات شاملة ومتكاملة.
يُقدم الجدول التالي ملخصاً للبيانات والإحصائيات الرئيسية المتعلقة بتفشي الكوليرا في السودان، مع التركيز على الوضع الحالي والتحديات والجهود المبذولة.
المؤشر | التفاصيل/البيانات | التاريخ/المرجع |
---|---|---|
إجمالي الإصابات المبلغ عنها | أكثر من 60,000 حالة | منظمة الصحة العالمية (حتى 2025/06/12) |
إجمالي الوفيات المبلغ عنها | أكثر من 1,640 حالة | منظمة الصحة العالمية (حتى 2025/06/12) |
الحالات في ولاية الخرطوم | أكثر من 7,700 حالة (منها 1,000+ بين الأطفال دون 5 سنوات) | اليونيسف (منذ يناير 2025) |
الوفيات في ولاية الخرطوم | 185 حالة | اليونيسف (منذ يناير 2025) |
إصابات ووفيات في أسبوع واحد (الخرطوم) | 2,729 إصابة و172 وفاة (90% في الخرطوم) | وزارة الصحة السودانية (أواخر مايو 2025) |
الولايات المتأثرة | الخرطوم، النيل الأبيض، كسلا، القضارف، جنوب دارفور، سنار، الجزيرة (7 ولايات على الأقل) | تقارير مختلفة |
حالات سنار | 153 حالة اشتباه و9 وفيات | (9 يونيو 2025) |
عدد جرعات لقاح الكوليرا المسلمة | 404,000 جرعة | اليونيسف (سبتمبر 2024) |
الأطفال المعرضون للخطر (الخرطوم) | أكثر من مليون طفل | اليونيسف |
المراكز العلاجية المتخصصة | 14 مركزاً تم إنشاؤها (مثل مستشفى كوستي التعليمي) | أطباء بلا حدود |
تُعد أزمة الكوليرا في السودان تحدياً صحياً وإنسانياً هائلاً، تفاقم بفعل الصراع الدائر وانهيار البنية التحتية الأساسية. فمع استمرار القتال، تُصبح جهود احتواء الوباء أكثر صعوبة، ويُعاني السكان، وخاصة الأطفال، من نقص حاد في المياه النظيفة والرعاية الصحية. ورغم الجهود المبذولة من قبل المنظمات الدولية والمحلية لتقديم العلاج والوقاية، فإن الأزمة تتطلب دعماً دولياً عاجلاً ومكثفاً لضمان وصول المساعدات الضرورية وتحسين الظروف المعيشية، وهو ما يُعد خطوة حاسمة نحو التخفيف من معاناة الشعب السوداني ومواجهة هذه الكارثة الصحية الشاملة.