بصفتي باحث دكتوراه في الأنثروبولوجيا، يسعدني أن أتعمق في عالم المشاة والمدن الحديثة من خلال إطار نظري معاصر. يعتبر المشي، الذي غالبًا ما يُنظر إليه على أنه مجرد وسيلة للتنقل، فعلًا غنيًا ومتعدد الأوجه يحمل دلالات ثقافية واجتماعية وسياسية عميقة. في هذا التحليل، سأختار واحدة من النظريات الأنثروبولوجية الحديثة لاستكشاف "المشاة" (flâneur) كشخصية محورية، مع تسليط الضوء على دور العلماء في دراسة هذه الظاهرة، وتقديم نقد للنهج الحالي، وعرض وجهة نظري الشخصية مدعومة بالمراجع.
لفهم تعقيدات المشي في السياق الحضري الحديث، سأعتمد على إطار عمل نظرية ما بعد الحداثة في الأنثروبولوجيا. ظهرت ما بعد الحداثة في الثمانينيات والتسعينيات كرد فعل على التقاليد الوضعية في الأنثروبولوجيا، مع التركيز على أهمية التفسير، وتعدد وجهات النظر، وتفكيك السرديات الكبرى، وتحليل علاقات القوة والمعرفة. في سياق دراسة المشاة، تسمح لنا ما بعد الحداثة بما يلي:
تتميز المدن الحديثة غالبًا بالتجزئة المكانية والاجتماعية. ينظر إليها منظرون ما بعد الحداثة على أنها فسيفساء من الخبرات والروايات المتناقضة. عندما يمشي الفرد في المدينة، فإنه يتنقل عبر هذه الفضاءات المتجزئة، وتتأثر تجربته بعوامل مثل الطبقة، والجنس، والعرق، والحالة الاجتماعية. لا يوجد هناك "تجربة مشي" عالمية، بل تجارب متعددة ومتنوعة تعكس تعقيدات الحياة الحضرية.
تركز ما بعد الحداثة على أهمية التمثيل والسرد في تشكيل فهمنا للعالم. تُبنى المدن الحديثة من خلال السرديات المختلفة - من خطط التنمية الحضرية الرسمية إلى القصص الشخصية للأفراد الذين يسكنونها. يمكن للمشاة أن يكونوا قراءًا لهذه السرديات، يكشفون عن الطبقات المخفية من المعنى والقوة من خلال تجولهم في الفضاء الحضري.
غالبًا ما تعكس خطط وتصميمات المدن علاقات القوة والمعرفة السائدة. قد تفضل البنية التحتية الحضرية وسائل نقل معينة (مثل السيارات) على حساب المشاة، مما يؤثر على قدرتهم على التنقل والتفاعل مع المدينة. تسمح لنا ما بعد الحداثة بتفكيك هذه الهياكل، وتسليط الضوء على كيفية تأثيرها على تجربة المشاة، وتحدي الافتراضات الكامنة وراء التخطيط الحضري التقليدي.
شخصية "المشاة" (flâneur)، التي وصفها فيلسوف الأدب والناقد الثقافي فالتر بنيامين، هي شخصية تتجول في شوارع المدينة دون هدف واضح، مراقبًا ومسجلًا لحياة المدينة. في الأصل، كان المشاة مرتبطًا بالرجال من الطبقة المتوسطة العليا في باريس القرن التاسع عشر، وكان يُنظر إليه كرمز للحداثة واللامبالاة والفردية. ومع ذلك، تطورت شخصية المشاة وتوسعت لتشمل مختلف الأفراد في سياقات حضرية متنوعة. من منظور ما بعد الحداثة، يمكن النظر إلى المشاة على أنه:
ينظر المشاة إلى المدينة كنص يمكن قراءته وتفسيره. كل شارع، كل مبنى، كل فرد يمر به، يحمل معاني ورموزًا تساهم في فهم المدينة ككل. من خلال تجولهم، يقوم المشاة بفك رموز هذا النص، وكشف طبقات المعنى والتناقضات التي تشكل التجربة الحضرية.
التجول في شوارع المدينة الحديثة
لا يعتبر المشاة مجرد مراقب سلبي، بل يساهم أيضًا في خلق المعنى من خلال تفاعلاته مع المدينة. يمكن لمساراته، ملاحظاته، وتفكيره أن تشكل فهمه الخاص للمدينة، والذي قد يختلف عن السرديات السائدة. هذا يتوافق مع التركيز ما بعد الحداثة على الذاتية وتعدد الروايات.
في بعض الأحيان، يمكن للمشي أن يكون فعلًا من أفعال المقاومة ضد الهياكل الحضرية التي تقيد الحركة أو تهمش بعض المجموعات. قصة "المشاة" لراي برادبري، حيث يُعتقل رجل لمجرد مشيه ليلًا في مجتمع مهووس بالتلفزيون، تسلط الضوء على كيف يمكن للمشي أن يصبح فعلًا جذريًا في سياق السيطرة الاجتماعية والتكنولوجية. من منظور ما بعد الحداثة، يمكن فهم هذه المقاومة كنوع من تحدي السرديات السائدة حول الحياة الحضرية المقبولة.
في قصة راي برادبري القصيرة "المشاة"، يقدم لنا المؤلف رؤية قاتمة لمستقبل حيث يُنظر إلى المشي البسيط على أنه انحراف ومؤشر على اختلال عقلي. الشخصية الرئيسية، ليونارد ميد، هي الوحيدة التي تستمر في ممارسة المشي في المساء، بينما يقضي الآخرون وقتهم في منازلهم يستهلكون وسائل الإعلام. هذا الفعل يجعله هدفًا لسيارة شرطة آلية، تعتقله وترسله إلى مؤسسة للأمراض النفسية لأن عدم انخراطه في أنماط الحياة الحديثة يُعتبر غير طبيعي. يمكن فهم هذا على أنه نقد لاذع للمجتمعات التي تقدر الاستهلاك الجماعي والتوافق على حساب الفردية والاستكشاف.
لعب العلماء، وخاصة الأنثروبولوجيين وعلماء الاجتماع، دورًا مهمًا في دراسة المشي والفضاء الحضري. لقد استخدموا مجموعة متنوعة من الأساليب، بما في ذلك الملاحظة بالمشاركة والإثنوغرافيا، لفهم كيفية تفاعل الأفراد مع بيئتهم الحضرية. في سياق المشاة، تركز الأبحاث على فهم الدوافع وراء المشي، وتأثير الفضاء الحضري على تجربة المشي، وكيف يمكن للمشي أن يعكس أو يتحدى الهياكل الاجتماعية.
جانب هام من الأبحاث المتعلقة بالمشاة هو سلامة المشاة. تُظهر الإحصاءات أن هناك عددًا كبيرًا من الوفيات والإصابات بين المشاة كل عام. تركز الأبحاث في هذا المجال على تحديد خصائص حوادث المشاة، وتقييم فعالية تدابير السلامة مثل ممرات المشاة المحددة وإشارات المشاة، وفهم العوامل السلوكية التي تساهم في الحوادث (مثل الانحرافات). يمكن للأنثروبولوجيا أن تساهم في هذا المجال من خلال توفير فهم أعمق لكيفية إدراك الأفراد للمخاطر، وكيف تتأثر سلوكياتهم بالسياق الثقافي والاجتماعي.
يشير البحث إلى أن المشاة غالبًا ما يكونون عرضة للخطر بسبب عوامل متعددة. وجدت دراسة أجرتها NHTSA أن تشتت الانتباه كان أعلى بين المشاة مقارنة بالسائقين، مما يزيد من احتمالية التعرض للحوادث. بالإضافة إلى ذلك، تُظهر الأبحاث أن بعض تصميمات التقاطعات وممرات المشاة تكون أكثر خطورة من غيرها. هذا يؤكد الحاجة إلى نهج شامل لسلامة المشاة لا يركز فقط على سلوك الأفراد، بل أيضًا على تصميم البيئة الحضرية.
يركز جزء آخر من البحث على تطوير "شبكات المشاة" الفعالة التي تعزز المشي وتشجع على التنقل المستدام. تتضمن هذه الأبحاث تحليل العوامل التي تجعل شبكة المشاة جيدة الأداء، مثل الاتصال وإمكانية الوصول والسلامة والجماليات. يمكن للأنثروبولوجيا أن تساهم من خلال فهم كيفية تأثير هذه العوامل على تجربة المشاة، وكيف يمكن تصميم الشبكات لتلبية احتياجات وتفضيلات مختلف المستخدمين.
نموذج لطريق مشاة مريح وآمن
يسلط البحث الضوء على أهمية تصميم الفضاءات الحضرية التي تعزز المشي كوسيلة مستدامة للتنقل. يتطلب تطوير شبكات مشاة فعالة نهجًا متعدد الأبعاد يأخذ في الاعتبار عوامل مثل الموقع، المعايير التي تؤثر على الأداء، المستخدمين، وكيفية تحليل الشبكة وتحسينها. يساهم هذا في رؤية أشمل لتصميم حضري مستدام يركز على الإنسان.
على الرغم من الأبحاث القيمة التي أُجريت حول المشاة والسلامة، إلا أن هناك بعض الانتقادات التي يمكن توجيهها إلى النهج الحالي:
تميل العديد من الدراسات، خاصة في مجال السلامة المرورية، إلى التركيز بشكل كبير على البيانات الكمية مثل عدد الحوادث ومعدلات الإصابات. في حين أن هذه البيانات ضرورية، إلا أنها قد لا تلتقط التجارب الذاتية للمشاة، وكيف يدركون المخاطر، وكيف يتنقلون في الفضاءات المعقدة. يمكن للنهج الأنثروبولوجي الذي يركز على الأساليب النوعية مثل الإثنوغرافيا أن يوفر فهمًا أعمق لهذه التجارب.
قد تفشل بعض الأبحاث في أخذ السياق الاجتماعي والثقافي الذي يحدث فيه المشي في الاعتبار. يمكن أن تختلف ممارسات المشي، وتصورات السلامة، والتفاعلات مع الفضاء الحضري بشكل كبير بين المجموعات الثقافية والاجتماعية المختلفة. يجب أن تكون الأبحاث المستقبلية أكثر حساسية لهذه الاختلافات.
على الرغم من الصلة الواضحة بين الأنثروبولوجيا الحضرية ودراسة المشاة، إلا أن هناك فجوة في دمج رؤى من هذا المجال في الأبحاث المتعلقة بالسلامة والتخطيط. يمكن للأنثروبولوجيا الحضرية أن تقدم فهمًا أعمق للديناميات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تشكل الحياة الحضرية، والتي بدورها تؤثر على تجربة المشي.
كتاب عن أنثروبولوجيا المدينة
من وجهة نظري كباحث دكتوراه، أعتقد أن النظرية الأنثروبولوجية المعاصرة، وخاصة ما بعد الحداثة، توفر إطارًا قويًا لتحليل المشي في المدن الحديثة. من خلال التركيز على التجزئة، والتمثيل، والسلطة، يمكننا تجاوز النظرات السطحية للمشي كنشاط وظيفي بحت، والتعمق في دلالاته الاجتماعية والثقافية والسياسية.
شخصية المشاة، على الرغم من جذورها التاريخية، لا تزال ذات صلة في فهم كيفية تفاعل الأفراد مع الفضاء الحضري اليوم. سواء كان ذلك التجول في شوارع المدينة لاستكشافها، أو المشي كوسيلة للتأمل والملاحظة، أو حتى المشي كفعل من أفعال المقاومة، فإن المشاة تجسد العلاقة المعقدة بين الفرد وبيئته المبنية.
لتحسين سلامة المشاة وتعزيز المشي كوسيلة مستدامة للتنقل، يجب على العلماء والمخططين تجاوز النهج التقليدي الذي يركز فقط على الجوانب الهندسية والكمية. يجب أن نتبنى نهجًا أكثر شمولية يدمج رؤى من الأنثروبولوجيا الحضرية، مع التركيز على فهم التجارب الذاتية للمشاة، والسياقات الاجتماعية والثقافية التي يحدث فيها المشي، وكيف يمكن للتخطيط الحضري أن يخلق فضاءات أكثر شمولية وإنصافًا لجميع مستخدمي الطريق.
إن فهم المشي من منظور أنثروبولوجي يمكن أن يساعدنا في إعادة التفكير في كيفية تصميم مدننا وكيفية تفاعلنا معها. يمكن أن يسلط الضوء على أهمية الفضاءات العامة، والتفاعل الاجتماعي، والحرية في التنقل. في نهاية المطاف، يمكن أن يساهم في خلق مدن ليست فقط أكثر أمانًا وكفاءة، بل أيضًا أكثر إنسانية وحيوية.
يسلط الجدول التالي الضوء على بعض النظريات الأنثروبولوجية المختلفة وكيف يمكن تطبيقها على دراسة المشاة:
النظرية الأنثروبولوجية | وصف موجز | تطبيق على دراسة المشاة |
---|---|---|
التطورية الاجتماعية (Social Evolutionism) | تركز على تطور المجتمعات عبر مراحل زمنية. | قد لا تكون ذات صلة مباشرة بالتحليل المعاصر للمشاة كظاهرة حديثة. |
الوظيفية (Functionalism) | تدرس كيف تخدم الممارسات والمؤسسات الثقافية وظائف معينة في المجتمع. | تحليل وظيفة المشي (كالتنقل، الترفيه، التفاعل الاجتماعي) في سياقات حضرية مختلفة. |
البنيوية (Structuralism) | تبحث عن الهياكل العميقة وغير الواعية التي تشكل الفكر والسلوك الثقافي. | تحليل الهياكل الثقافية والرمزية الكامنة وراء ممارسات المشي وتصورات الفضاء. |
ما بعد الحداثة (Postmodernism) | تركز على التفسير، وتعدد وجهات النظر، وتفكيك السرديات الكبرى، وتحليل السلطة والمعرفة. | فهم التجارب المتنوعة والمجزأة للمشي في المدن الحديثة، وتفكيك السرديات الرسمية حول التخطيط الحضري. |
الأنثروبولوجيا الحضرية (Urban Anthropology) | دراسة الثقافة والمجتمع في البيئات الحضرية. | توفير السياق الاجتماعي والثقافي لفهم ممارسات المشي، وتأثير الديناميات الحضرية على المشاة. |
المشي هو مجرد فعل بدني للانتقال سيرًا على الأقدام. المشاة (Flâneur) هي شخصية ثقافية أو اجتماعية تتجاوز مجرد المشي كوسيلة نقل، وتشارك في مراقبة وتفسير الحياة الحضرية من خلال التجول.
تقليديًا، كانت شخصية المشاة مرتبطة بالذكور. ومع ذلك، تناولت الأبحاث الحديثة مفهوم "المشاة الأنثى" (Flâneuse) لتسليط الضوء على تجارب النساء في التجول في الفضاء الحضري، والتي غالبًا ما تكون مختلفة عن تجارب الرجال بسبب عوامل مثل السلامة والتوقعات الاجتماعية.
يمكن أن تؤثر التكنولوجيا على المشي بطرق مختلفة. من ناحية، يمكن أن تشتت انتباه المشاة (مثل استخدام الهواتف الذكية)، مما يزيد من مخاطر الحوادث. من ناحية أخرى، يمكن للتطبيقات التكنولوجية أن تساعد في التنقل واستكشاف المدن، وربما تعزز تجربة المشي بطرق جديدة.
سلامة المشاة أمر بالغ الأهمية لخلق مدن صالحة للعيش ومستدامة. عندما يشعر المشاة بالأمان والراحة، فمن المرجح أن يختاروا المشي كوسيلة للتنقل، مما يقلل الاعتماد على السيارات ويساهم في تحسين الصحة العامة والبيئة الحضرية.